الشاعر الفلسطيني الكبير
محمود درويش
لم يكن محمود درويش يعبث لحظة واحدة بأدوات رسالته لفرط حساسية هذه الأدوات . فأداة الشاعر الفلسطيني واحدة بطبيعته الاستثنائية ، هذه الأداة هي الوطن المفقود الذي يصبح في الغياب فردوسا مفقودا ، هكذا صدر الحكم ـ قدريا ـ على محمود درويش الشاعر أن يولد فلسطينيا ليصبح لسانا لهذه الأرض التي أُفقدت عن عمد الكثير من ألسنتها .
والمتتبع لحياة محمود درويش يجدها قد مثّلت ـ بصورة نموذجية ـ أبعاد قضية شعبه على مدار ستين عاما هي مدتها ، وعبر توصيفات صدقت في كل وقت على كل أفراد هذا الشعب .
مع الميلاد : عندما كنت صغيرا . . كانت الوردة داري . . والعصافير إزاري
في عام 1942 وُلد محمود درويش في قرية "البروة " بالقرب من عكا ، وهي القرية التي لا يذكر منها الكثير ، حيث بترت ذكرياته فجأة وهو في السادسة من عمره .
في إحدى الليالي حالكة السواد استيقظ فجأة على أصوات انفجارات بعيدة تقترب ، وعلى هرج في المنزل ، وخروج فجائي ، وعدوٍ استمر لأكثر من ست وثلاثين ساعة تخلله اختباء في المزارع من أولئك الذين يقتلون ويحرقون ويدمرون كل ما يجدونه أمامهم " عصابات الهاجاناة " .
ويستيقظ الطفل محمود درويش ليجد نفسه في مكان جديد اسمه "لبنان " ، وهنا يبدأ وعيه بالقضية يتشكل من وعيه ببعض الكلمات ، مثل : فلسطين ، وكالات الغوث ، الصليب الأحمر ، المخيم ، واللاجئين . . وهي الكلمات التي شكّلت مع ذلك إحساسه بهذه الأرض ، حين كان لاجئا فلسطينيا ، وسُرقت منه طفولته وأرضه .
وفي عامه السابع عشر تسلل إلى فلسطين عبر الحدود اللبنانية ، وعن هذه التجربة يقول:
" قيل لي في مساء ذات يوم . . الليلة نعود إلى فلسطين ، وفي الليل وعلى امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان الوعرة كنا نسير أنا وأحد أعمامي ورجل آخر هو الدليل ، في الصباح وجدت نفسي أصطدم بجدار فولاذي من خيبة الأمل : أنا الآن في فلسطين الموعودة ؟! ولكن أين هي ؟ فلم أعد إلى بيتي ، فقد أدركت بصعوبة بالغة أن القرية هدمت وحرقت " .
هكذا عاد الشاب محمود درويش إلى قريته فوجدها قد صارت أرضا خلاء ، فصار يحمل اسما جديدا هو: " لاجئ فلسطيني في فلسطين " ، وهو الاسم الذي جعله مطاردًا دائما من الشرطة الإسرائيلية ، فهو لا يحمل بطاقة هوية إسرائيلية؛ لأنه "متسلل " . . وبالكاد وتنسيقًا مع وكالات الغوث بدأ الشاب اليافع في العمل السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي ، محاولا خلق مناخ معادٍ للممارسات الإرهابية الصهيونية ، وكان من نتيجة ذلك أن صار محررا ومترجما في الصحيفة التي يصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي ( راكاح ) ، وهو الحزب الذي رفع في تلك الفترة المبكرة من الستينيات شعارا يقول : " مع الشعوب العربية . . ضد الاستعمار " ، وهي الفترة ذاتها التي بدأ يقول فيها الشعر ، واشتُهر داخل المجتمع العربي في فلسطين بوصفه شاعرا للمقاومة لدرجة أنه كان قادرا بقصيدته على إرباك حمَلة السلاح الصهاينة ، فحينئذ كانت الشرطة الإسرائيلية تحاصر أي قرية تقيم أمسية شعرية لمحمود درويش .
وبعد سلسلة من المحاصرات ، اضطر الحاكم العسكري إلى تحديد إقامته في الحي الذي يعيش فيه ، فصار محظورا عليه مغادرة هذا الحي منذ غروب الشمس إلى شروقها في اليوم التالي ، ظانا أنه سيكتم صوت الشاعر عبر منعه من إقامة أمسياته .
إلى المنفى: وطني على كتفي . . بقايا الأرض في جسد العروبة
وهنا بدأ محمود درويش الشاعر الشاب مرحلة جديدة في حياته بعد أن سُجن في معتقلات الصهيونية ثلاث مرات : 1961 – 1965 – 1967 .
ففي مطلع السبعينيات وصل محمود درويش إلى بيروت مسبوقا بشهرته كشاعر ، وعبر أعوام طويلة من التنقل كان شعره صوتا قويا يخترق أصوات انفجارات الحرب الأهلية في لبنان .
وفي عام 1977 وصلت شهرته إلى أوجها ، حيث وُزع من كتبه أكثر من مليون نسخة في الوقت الذي امتلكت فيه قصائده مساحة قوية من التأثير على كل الأوساط ، حتى إن إحدى قصائده ( عابرون في كلام عابر ) قد أثارت نقاشا حادا داخل الكنيست الإسرائيلي .
هذا التأثير الكبير أهَّله بجدارة لأن يكون عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية على الرغم من عدم انتمائه لأية جماعة أو حزب سياسي منذ مطلع السبعينيات ، وقد تطورت علاقته بمنظمة التحرير حتى اختاره " عرفات " مستشارا له فيما بعد ولفترة طويلة ، وقد كان وجوده عاملا مهما في توحيد صفوف المقاومة حينما كان يشتد الاختلاف ، وما أكثر ما كان يشتد ! .
يذكر " زياد عبد الفتاح " أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واقعة تؤكد هذا المعنى فيقول : "قرأ محمود درويش على المجلس الوطني الفلسطيني بكامل أعضائه ومراقبيه ومرافقيه وضيوفه وحرسه قصيدة: " مديح الظل العالي " فأثملهم وشغلهم عن النطاح السياسي الذي شب بينهم في تلك الجلسة .
وهذا ما جعل ياسر عرفات يحاول إقناع محمود درويش بُعيد إعلان قيام الدولة الفلسطينية في المنفى بتولي وزارة الثقافة الفلسطينية ، ولكن الرد كان بالرفض ، معللا هذا الرفض بأن أمله الوحيد هو العودة إلى الوطن ثم التفرغ لكتابة الشعر .
وقد عاش محمود درويش كثيرا من مآسي هذه المقاومة ، وشاهد بنفسه كثيرين من أصدقائه ورفقاء كفاحه وهم يسقطون بأيدي القتلة الصهاينة ، وكانت أكثر حوادث السقوط تأثيرا في نفسه حادث اغتيال " ماجد أبو شرار " في روما عام 1981 ، حين كانا يشاركان في مؤتمر عالمي لدعم الكتاب والصحفيين الفلسطينيين نظَّمه اتحاد الصحفيين العرب بالتعاون مع إحدى الجهات الثقافية الإيطالية . . وضع الموساد المتفجرات تحت سرير ماجد أبو شرار . . وبعد موته كتب محمود درويش في إحدى قصائده : " أصدقائي . . لا تموتوا " .
كان محمود درويش مقيما في بيروت منذ مطلع السبعينيات ، وعلى الرغم من تجواله المستمر إلا أنه قد اعتبرها محطة ارتكازه ، كما كانت حياته في بيروت زاخرة بالنشاط الأدبي والثقافي ، فقد أصدر منها في أواخر السبعينيات مجلة الكرمل التي رأس تحريرها والتي اعتبرت صوت اتحاد الكتاب الفلسطينيين .
تحت القصف : ( بيروت . . لا )
أثناء قصف بيروت الوحشي ، كان محمود درويش يعيش حياته الطبيعية ، يخرج ويتنقل بين الناس تحت القصف ، لم يكن يقاتل بنفسه ، فهو لم يعرف يوما كيف يطلق رصاصة ، لكن وجوده ـ وهو الشاعر المعروف ـ بين المقاتلين كان يرفع من معنوياتهم ، وقد أثر قصف بيروت في درويش تأثيرا كبيرا على مستويات عديدة .
فعلى المستوى النفسي كانت المرة الأولى التي يحس فيها بالحنق الشديد ، على الرغم من إحباطاته السابقة ، وعلى المستوى الشعري أسهم هذا القصف في تخليه عن بعض غموض شعره لينزل إلى مستوى أي قارئ ، فأنتج قصيدته الطويلة الرائعة " مديح الظل العالي " ، معتبرا إياها قصيدة تسجيلية ترسم الواقع الأليم ، وتدين العالم العربي ، بل الإنسانية كلها .
وأسفر القصف عن خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت ، بينما فضّل محمود درويش البقاء في بيروت ، معولا على عدم أهميته بالنسبة للصهاينة ، لكنه وبعد عشرين يوما من بقائه علم أنه مطلوب للتصفية ، فاستطاع أن يتسلل هاربا من بيروت إلى باريس ليعود مرة أخرى إلى حقيبته وطنا متنقلا ومنفى إجباريا . وبين القاهرة وتونس وباريس عاش محمود درويش حبيس العالم المفتوح معزولا عن جنته الموعودة . . فلسطين .
لقد كان الأمل في العودة هو ما يدفعه دائما للمقاومة ، والنضال والدفع إلى النضال
كان محمود درويش دائما يحلُم بالعودة إلى أرضه يشرب منها تاريخها ، وينشر رحيق شعره على العالم بعد أن تختفي رائحة البارود ، لكنه حلم لم يتحقق حتى الآن ! .
اتفاقات التسوية " لماذا تطيل التفاوض يا ملك الاحتضار " ؟
في عام 1993 وأثناء تواجده في تونس مع المجلس الوطني الفلسطيني ، أُتيح لمحمود درويش أن يقرأ اتفاق أوسلو ، واختلف مع ياسر عرفات لأول مرة حول هذا الاتفاق ، فكان رفضه مدويا ، وعندما تم التوقيع عليه بالأحرف الأولى قدم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني ، وشرح بعد ذلك أسباب استقالته قائلا: " إن هذا الاتفاق ليس عادلا ؛ لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته الفلسطينية ، ولا جغرافية هذه الهوية إنما يجعل الشعب الفلسطيني مطروحا أمام مرحلة تجريب انتقالي . . وقد أسفر الواقع والتجريب بعد ثلاث سنوات عن شيء أكثر مأساوية وأكثر سخرية ، وهو أن نص أوسلو أفضل من الواقع الذي أنتجه هذا النص " .
وعاد درويش في يونيو 1994 إلى فلسطين ، واختار الإقامة في رام الله ، وعانى مذلة الوجود في أرض تنتمي له ، ويحكمها ـ ولا يحكمه ـ فيها شرطي إسرائيلي . . واستمر يقول الشعر تحت حصار الدبابات الإسرائيلية ، إلى أن تم اجتياحها أخيرا ، ولم يسلم هو شخصيا من هذا الاجتياح ، حيث داهمت الشرطة الإسرائيلية منزله ، وعبثت بأسلحته : أوراقه وأقلامه .[right]